فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

صباحاً 8 :57
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}.
أن هؤلاء المنافقين قوم لا حول لهم ولا قوة، ولكن الله سبحانه وتعالى، وهو القادر القوي حينما يستهزئ بهم يكون الاستهزاء أليمًا، وإذا كان المنافق، قد أظهر بلسانه ما ليس في قلبه، فإن الله سبحانه وتعالى يعامله بمثل فعله، فإذا كان له ظاهر وباطن، يعامله في ظاهر الدنيا، معاملة المسلمين، وفي الآخرة يوم تبلى السرائر يجعله في الدرك الأسفل من النار، لا يسويه بالكافر لأن ذنب المنافق أشد.
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} والاستهزاء هو السخرية، فهم يأتون يوم القيامة محاولين أن يتمسكوا بالظاهر، فيظهر الله سبحانه وتعالى لهم باطنهم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1].
والهمزة هو الذي يسخر من الناس ولو بالإشارة.
يرى إنسانا مصابا بعاهة في قدمه، يمشي وهو يعرج فيحاول أن يقلده بطريقة تثير السخرية، إما بالإشارة وإما بالكلام، وهناك همز وهمزه.. الهمز الاستهزاء والسخرية من الناس، علامة عدم الإيمان، لأننا كلنا مخلوقون من إله واحد، فهذه الصفة التي سخرت فيها من إنسان أعرج مثلا، لا عمل له فيها، ولا حول له ولا قوة.. والإنسان لم يصنع نفسه، والحقيقة أنك تسخر من صنع الله، والذي يسخر من خلق الله إنسان غبي لأنه سخر من خلق الله في عيب، ولم يقدر ما تفضل الله به عليه، كما أنه سخر من عيب ولم يفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى قد أعطى ذلك الإنسان خصالا ومميزات ربما لم يعطها له، والله سبحانه وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ} [الحجرات: 11].
إن مجموع كل إنسان، يساوي مجموع كل إنسان آخر، وذلك هو عدل الله، فإذا كنت أحسن من إنسان في شيء فابحث عن النقص فيك. فإن استهزأت بمؤمن في شيء، فالاستهزاء غير مفصول عن صنعة الله، إذن فمن المنطق عندما قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أن يرد الله عليهم {اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي يزيدهم في هذا الطغيان، لأن المد هو أن تزيد الشيء، ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته، ومرة تزيد عليه من غيره، قد تأتي بخيط وتفرده إلى آخره، وقد تصله بخيط آخر، فتكون مددته من غيره، فالله يزيدهم في طغيانهم. وقوله تعالى: {يعمهون} العمه يختلف عن العمى، والخلاف في الحرف الأخير، العمى عمى البصر، والعمه عمى البصيرة، ويعمهون أي يتخبطون، لأن العمه ينشأ عنه التخبط سواء التخبط الحسي، من عمى البصر، أو التخبط في القيم ومنهج الحياة من عمى البصيرة. والله تعالى يقول: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فكأنما العمى المادي، قد لا يكون، ولكن يكون هناك عمى البصيرة، واقرأ قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125- 126].
فكأن عمى البصيرة في الدنيا، يعمي بصر الإنسان، عن رؤية آيات الله في كونه، ويعميه عن الإيمان والمنهج. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
وقوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} الله: رفع بالابتداء، و{يستهزئ} جملة فعلية في محلّ رفع خبر، و{بِهِمْ} متعلّق به، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها.
و{يَمُدُّهُمْ} يتركهم ويُمْهِلُهُمْ، وهو في محل رفع أيضًا لعطفه على الخَبَرِ، وهو {يستهزئ}.
و{يَعْمَهُونَ} في مَحَلِّ الحال من المفعول في {يَمُدُّهُمْ} أو من الضمير في {طغيانهم} وجاءت الحال من المُضّاف إليه؛ لأنَّ المُضّاف مصدر.
و{في طُغْيَانِهِم} يحتمل أن يتعلّق ب {يمدهم} أو ب {يعمهون} وقدّم عليه، إلاَّ إذا جعل {يعمهون} حالًا من الضَّمير في {طغيانهم} فلا يتعلّق به حينئذ، لفساد المعنى.
وقد منع أبو البَقَاءِ أن يكون {في طغيانهم} و{يعمهون} حَالَيْن من الضَّمير في {يمدهم} معللًا ذلك بأن العاملَ الواحدَ لا يعمل في حالين، وهذا على رأي من منع ذلك.
وأما من يجيز تعدُّد الحال مع عدم تعدُّد صاحبها فيجيز ذلك، إلاّ أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع من ذلك إلا ما ذكره أبو البَقَاءِ، بل لأن المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجار والمجرور حالًا؛ إذ المعنى منصب على أنه متعلّق بأحد الفعلين، أعني: {يمدّهم} أو {يعمهون} لا بمحذوف على أنه حال.
والمشهور: فتح الياء من {يمدهم}.
وقرئ شإذا: {يُمِدُّهُمْ} بضم الياء.
فقيل: الثلاثي والرُّباعي بمعنى واحد تقول: مدّه وأمدّه بكذا.
وقيل: مدّه إذا زاده عن جِنْسِهِ، وأمدّه إذا أراد من غير جِنْسِهِ.
وقيل: مدّه في الشَّرِّ لقوله تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدًّا} [مريم: 79]، وأمدّه في الخير لقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ} [الطور: 22]، {أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة} [آل عمران: 124] إلا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرئ: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} [الأعراف: 202] باللغتين، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم الياء أنه بمنزلة قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عمران: 21]، {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الليل: 10] يعني أبو علي- رحمه الله- بذلك أنه على سبيل التهكُّم.
وأصل المدد الزيادة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم زعمت أنه من المَدَد دون المَدّ في العُمُر والإمْلاء والإمْهَال؟
قلت: كفاك دليلًا على لك قراءة ابن كثير، وابن محيصن: {ويمدهم} وقراءة نافع: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ} [الأعراف: 202] على أنَّ الذي بمعنى أَمْهَلَ إنما هو مَدّ له باللام كأملى له.
والاستهزاء لغةً: السخرية واللّعب؛ يُقَال: هَزِئَ به، واستهزأ، قال: الرجز:
قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ ** قالَت أَرَاهُ مُعْدِمًا لاَ مَالَ لَهْ

وقيل: أصله الانتقام؛ وأنشد: الطويل:
قَدِ اسْتَهْزَؤُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجِ ** سَرَاتُهُمُ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمُ

والطُّغيان: الضلال مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْيانًا وطُغيانًا بكسر الطَّاء وضمها.
وبكسر الطَّاء قرأ زيد بن علي، ولام طغى قيل: ياء.
واو، يقال: طَغَيْتُ وطَغَوْتُ، وأصل المادّة مُجاوزة الحَدّ، ومنه: طغى الماء.
والعَمَةُ: التردُّد والتحيُّر، وهو قريب من العَمَى، إلا أن بينهما عمومًا وخصوصًا، لأن العَمَى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَةُ لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال: عَمِهَ عَمَهًا وَعَمَهَانًا فهو عَمِهٌ فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ. اهـ. باختصار يسير.

.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز:
{وإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا ءامَنَّا وَإذا خَلَوْا إلَى شَياطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعكُمْ إنَّمَا نحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اَلله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون}.
اعلم! أن وجه نظم مآل هذه الآية بمآل سابقتها: عطف الجناية الرابعة، أعني الاستهزاء والاستخفاف على الجنايات السابقة من التسفيه والافساد والفساد.
وان وجه النظم بين جملها هو انه: كما أن للايمان الذي هو نقطة استنادٍ عن الآلام ونقطة استمداد للآمال ثلاث خواص حقيقية:
إحداها: عزة النفس الناشئة من نقطة الاستناد، ومن شأن عزة النفس عدم التنزّل للتذلّل.
والثانية: الشفقة التي من شأنها عدم التذليل والتحقير.
والثالثة: احترام الحقائق ومعرفة قيمتها، لأن صاحب غالي القيمة ذو حقيقة، وعنده الجوهر الفريد، وعدم الاستخفاف بالحقيقة لأنه أيضًا رزين؛ كذلك لضد الإيمان، أعني النفاق اضدادُ خواصِه الثلاث، فخواص النفاق الناشئة منه: ذلة النفس، وميل الإِفساد، والغرور بتحقير الغير.
إذا عرفت هذا، فاعلم! أن النفاق يولِّد ذلةَ النفس وهي تنتج التذللَ، وهو الرياءَ وهو المداهنةَ وهي الكذبَ. فأشار إليه بقوله: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا}.
ثم لما كان النفاق مفسدًا للقلب وفساده ينتج يُتْمَ الروحِ أي عدم الصاحب والحامي والمالك فيتولد الخوف وهو يلجؤه إلى التستر، اشار إليه بلفظ وإذا خلوا.
ثم لما كان النفاق قاطعا للرحم وقطعُه يزيل الشفقة، وزوالها ينتج الافسادَ وهو الفتنةَ وهي الخيانةَ وهي الضعفَ وهو يضطره إلى الالتجاء إلى ظهير ومستند، أشار إليه بلفظ إلى {شياطينهم}.
ثم لما كان النفاق جهلا تردديا انتج تذبذب الطبيعة وهو عدم الثبات وهو عدم المسلك وهو عدم الأمنية بهم وهو يجبرهم على تجديد عهدهم، أشار إلى هذه السلسلة بلفظ {قالوا إنّا معكم}.
ثم لما احتاجوا إلى الاعتذار استخفّوا بالحقيقة لخفتهم، ورخّصوا غالي القيمة لعدم قيمتهم، وأهانوا بالعالي لهون نفسهم وضعفها الذي ينشأ منه الغرور فقال: {قالوا إنما نحن مستهزؤن}.
ثم بينما كان السامع منتظرًا من انصباب الكلام مقابلةَ المؤمنين لهم رأى أن الله قابلهم بدلًا عن المؤمنين إشارة إلى تشريفهم، ورمزًا إلى أن استهزاءهم في مقابلة جزاء الله تعالى كالعدم، وايماءً إلى حمقهم وزجرهم وردهم؛ إذ كيف يُستَهْزأُ بمن كان الله حاميه؟ فقال تعالى: {الله يستهزئُ بهم} أي يعاقبهم على استهزائهم أشد جزاء بصورة استخفاف وتهكمٍ بهم في الدنيا والآخرة مع الاستمرار التجدديّ.. وجملة {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} كشف وتفصيل وتصوير لجزاء استهزائهم بطرز الاستهزاء.
أما وجه نظم هيئات كل جملة جملة:
فاعلم! أن جملة {إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} التي سيقت في مداهنتهم؛ قطعية {إذا} فيها ايماءٌ إلى الجزم والتعمد والقصد، أي عزموا بعمد وقصد ملاقاتهم.. ولفظ {لقوا} إيماء إلى أنهم تعمدوا مصادفتهم في الطرق بين ظهراني الناس.. ولفظ {الذين امنوا} بدل المؤمنين إشارة إلى مباشرتهم معهم وتماسهم بهم، وإلى أن ارتباطهم معهم بصفة الإيمان، وإلى أن مدار النظر بين أوصاف المؤمنين صفة الإيمان فقط.. ولفظ {قالوا} تلويح إلى أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وأن قولهم للتصنع والرياء والمداهنة ودفع التهمة والحرص على جلب منافع المؤمنين والاطلاع على أسرارهم.. ولفظ {آمنا} بلا تأكيد مع اقتضاء المقام اياه، وبايراده جملة فعلية، إشارة إلى أن ليس في قلوبهم مشوق وعشق محرك ليتشددوا ويتجلدوا في كلامهم.. وأيضًا أن في ترك التأكيد إيماء إلى تشددهم في دفع التهمة عنهم، كأنهم يقولون: انكاركم ليس في موقعه بل في منزلة العدم، إذ لسنا أهلًا للتهمة.. وأيضًا فيه رمز إلى أن التأكيد لايروج عنهم.. وأيضا فيه لمح إلى أن هذا الحجاب الرقيق الضعيف على الكذب إذا شدد تمزق.. وأيضا في فعليته إشارة إلى أنه لايمكن لهم أن يدعوا الثبات والدوام، وإنما غرضهم من هذا التصنع الاشتراك في منافع المؤمنين والاطلاع على اسرارهم بادعاء حدوث الإيمان.
وأما جملة {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} فالواو الجامعة في {وإذا} إيماء إلى أن هذا الكلام سيق لبيان أن لامسلك لهم، ولبيان تذبذبهم المفصل بهاتين الشرطيتين.. والجزمية في {إذا} رمز إلى أنهم بحكم الفساد والافساد يرون الالتجاء وظيفةً ضرورية.. ولفظ {خلوا} إشارة إلى أنهم بحكم الخيانة يتخوفون، وبحكم الخوف يتسترون.. ولفظ {الى} بدل مع المناسب لخلوا إشارة إلى أنهم بحكم العجز والضعف يلتجئون، وبحكم الفتنة والافساد يوصلون أسرار المؤمنين إلى الكافرين.. ولفظ الشياطين إشارة إلى أن رؤساءهم كالشياطين متسترون موسوسون، وإلى أنهم كالشياطين يضرون، وإلى أنهم على مذهب الشياطين لايتصورون إلا الشر.
وأما جملة {قالوا إنّا معكم} المسوقة لتبرئة ذمتهم وتجديد عهدهم وثباتهم في مسلكهم، فاعلم! أنه أكد مع غير المنِكر هنا، وترك التأكيد مع المنِكر هناك اشارةً ودلالةً على عدم الشوق المحرك في قلب المتكلم هناك ووجوده هنا. أما اسمية هذا وفعلية ذاك، فلأن المقصود اثبات الثبوت والدوام في ذا، والحدوث في ذلك.
أما {انما نحن مستهزؤن} فاعلم! أنه لم يعطف، إذ الوصل إنما هو بالتوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع. مع أن هذه الجملة بدلٌ بجهة وتأكيد بجهة وهما من كمال الاتصال، وجوابُ سؤالٍ مقدَّر بجهة أخرى، وهو من كمال الانقطاع لخبرية الجواب وانشائية السؤال في الأغلب.. أما وجه التأكيد ويقرب منه البدل فهو: أن مآلها اهانة الحق وأهله فيكون تعظيما للباطل وأهله وهو مآل {إنّا معكم}. وأما وجه الجوابية للسؤال المقدر فكأن شياطينهم يقولون لهم: أن كنتم معنا وفي مسلكنا فما بالكم توافقون المؤمنين؟ فإما انتم في مذهبهم أو لا مذهب لكم؛ فاعتذَروا مجيبين ب {إنما نحن مستهزؤن} فصرحوا بانهم ليسوا من الإسلام في شئ، وأشاروا بحصر {انما} إلى أنهم ليسوا مذبذبين بلا مذهب معلوم، وباسمية {مستهزؤن} إلى أن الاستهزاء شأنهم وصفتهم. ففعلهم هذا ليس بالجد.
وأما جملة {الله يستهزئ بهم} فاعلم! إنها لم توصل بسوابقها بل فصلت فصلا؛ لأنها لو عطفت فإما على {نما نحن مستهزؤن} وهو يقتضي أن تكون هذه أيضًا تأكيدًا ل {انا معكم}. وإما على {قالوا} وهو يقتضي أن تكون هذه أيضًا مقولا لهم.. وإما على {قالوا} وهو يقتضي أن تكون هذه أيضًا مقيدة بوقت الخلوة مع أن استهزاء الله بالدوام.. وإما على {إذا خلوا} وهو يقتضي أن تكون هذه من تتمة صفة تذبذبهم.. وإما على {إذا لقوا} وهو يستلزم أن يكون الغرض منهما واحدًا. مع أن الأول لبيان العمل، والثاني للجزاء، واللوازم باطلة، فالوصل لايصح. فلم يبق إلا أن تكون مستأنفة جوابًا لسؤال مقدّر. ثم أن في هذا الاستيناف ايماءً ورمزًا إلى أن شناعتهم وخباثتهم بلغت درجة تجبر روح كل سامعٍ وراءٍ أن يسأل بكيف جزاء مَن هذا عمله؟.
ثم إن الافتتاح بلفظة {الله} مع أن ذهن السامع كان منتظرًا لتلقي مقابلة المؤمنين معهم، إشارة إلى تشريف المؤمنين وترحمه عليهم، إذ قد قابل بدلا عنهم.. وأيضًا رمز إلى زجرهم؛ إذ لايُستهزأ بمن استناده بعلاّم الغيوب.. وأيضًا إيماء بالاقتطاع وعدم النظر إلى تقرر استهزائهم إلى أن استهزاءهم كالعدم بالنظر إلى جزائه.. ثم أن التعبير عن نكايات الله تعالى معهم بالاستهزاء- الذي لايليق بشأنه تعالى- للمشاكلة في الصحبة، وللرمز إلى أن النكاية جزاء للاستهزاء ونتيجة ولازمة له، مع أن المراد لازم الاستهزاء، أعني التحقير.. وأيضًا إيماء إلى أن استهزاءهم الذي لا يفيد بل يضر عين استهزاء الله تعالى معهم؛ كمن يظن أنه يستهزئ بك مع إنك تراه كالمجنون تريد أن يتكلم ولو بشتمك لتضحك منه، فاستهزاؤه بعض استهزائك.
ثم في {يستهزئ} مضارعا مع أن السابق {مستهزؤن} اسم فاعل إشارة إلى أن نكايات الله تعالى وتحقيراته تتجدد عليهم ليحسوا بالألم ويتأثروا به؛ إذ ما استمر على نسق يقلّ تأثيره بل قد يعدم. ولذا قيل شرط الاحساس الاختلاف.
أما {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} أي توسلوا بأسباب الضلالة وطلبوها فأعطاهم الله تعالى.. ففي لفظ يمد رمز إلى رد الإعتزال، وفي تضمّن يمد للاستمداد إيماء إلى ردّ الجبر، أي اختاروا بسوء اختيارهم واستمدوا، فأمدّهم الله تعالى وأرخى عنانهم.. وفي اضافة الطغيان إلى هم أي أن لهم فيه اختيارًا رمز إلى رد عذرهم بالمجبورية.. وفي الطغيان إشارة إلى أن ضررهم متعد استغرق المحاسن كالسيل وهدم أساس الكمالات فلم يبق إلا غثاء أحوى. و{يعمهون} أي: يتحيرون ويترددون. وفيه إشارة إلى أنه لامسلك لهم وليس لهم مقصود معين. اهـ.